“المصطفى” مدرس الرياضيات الذي صنع بصمة تربوية مختلفة وقطع الجهل بسيف العلم.

في مدينة الإسكندرية، حيث يلتقي البحر الأزرق مع عبق التاريخ، يبرز اسم تربوي شاب استطاع أن يترك بصمة مميزة في عالم التعليم. إنه الأستاذ محمد مصطفى، المعروف بين طلابه وزملائه باسم الشهرة “المصطفى” أو “الجزار”، مدرس الرياضيات الذي جمع بين الشغف بالمادة والدور التربوي العميق في تشكيل أجيال جديدة.
منذ سنواته الأولى في التدريس، أدرك أن التعليم ليس مجرد نقل معلومات أو حل معادلات، بل هو رسالة ومسؤولية تجاه المجتمع. فهو يرى أن الرياضيات، رغم صعوبتها الظاهرية عند بعض الطلاب، هي لغة التفكير المنطقي وأداة لفهم العالم من حولنا. لذلك وضع نصب عينيه أن يجعل من المادة وسيلة لإلهام طلابه وتشجيعهم على الإبداع، لا مجرد امتحان أو درجة في كشف الدرجات.
يطلق عليه طلابه وزملاؤه لقب “الجزار”، وهو لقب اكتسبه بحب، لا رهبة. فالاسم جاء من صرامته في التدريس ودقته في متابعة تفاصيل العملية التعليمية، لكنه في الوقت ذاته يمتلك قلبًا رحيمًا يوازن بين الشدة واللين. هذا المزج بين الانضباط والإنسانية جعله نموذجًا مختلفًا للمعلم الذي يُهاب ويُحَب في الوقت نفسه.
في قاعات الدروس، اعتاد طلابه على رؤية السبورة وقد امتلأت بالمسائل المرسومة بخط منظم، وعلى سماع صوته الواثق وهو يشرح الأفكار المعقدة بطريقة مبسطة وسلسة. أما خارج جدران الفصل، فيعرفونه صديقًا قريبًا يستمع لهمومهم ويقدم لهم النصيحة، مما جعله أقرب إلى الأخ الأكبر أو الموجّه النفسي قبل أن يكون مدرسًا.
كما يؤمن بأن الطالب لا يتعلم في أجواء الضغط فقط، بل يحتاج إلى بيئة محفزة تدفعه لاكتشاف قدراته. لذلك، يعتمد في تدريسه على الأسلوب التفاعلي، حيث يشجع الطلاب على المشاركة في الحلول والنقاشات، بدلًا من الاقتصار على الحفظ والتلقين.
ويحرص على ربط موضوعات الرياضيات بحياة الطلاب اليومية. فعندما يتحدث عن النسب والتناسب، يضرب أمثلة من الأسواق والرياضة، وعندما يشرح الهندسة، يربطها بالعمارة والفن، فيجعل الرياضيات مادة حية تنبض بالواقع. هذا الأسلوب ساهم في زيادة إقبال الطلاب على المادة، بل وجعل بعضهم يغير نظرته السلبية تجاهها إلى حب وفضول.
لم يتوقف دور “المصطفى” عند حدود المدرسة أو قاعة الدروس، بل امتد ليشمل المجتمع المحلي. فقد شارك في مبادرات تعليمية مجانية لمساعدة طلاب المناطق الشعبية والريفية في الإسكندرية، مؤمنًا بأن التعليم حق للجميع، وأن المدرس الحقيقي هو من يخدم العلم أينما كان.
كما يشارك بانتظام في مجموعات دعم على منصات التواصل الاجتماعي، يقدم فيها نصائح تعليمية واستراتيجيات للمذاكرة، ويجيب عن استفسارات أولياء الأمور والطلاب. هذا التفاعل الرقمي منحه قاعدة جماهيرية واسعة جعلت منه وجهًا مألوفًا في الوسط التربوي السكندري.
يُجمع كل من تعامل معه أن محمد مصطفى استطاع أن يثبت أن المعلم هو ركيزة أساسية في بناء المجتمع، وأن دوره يتجاوز حدود السبورة والكتاب. فقد خرج من بين يديه مئات الطلاب الذين لم يكتفوا بتعلم الرياضيات، بل تعلموا قيم الالتزام والجدية واحترام الوقت.
ورغم أن لقب “الجزار” قد يوحي بالبعض إلى الشدة، إلا أن الواقع يؤكد أنه جزار من نوع آخر؛ يقطع الجهل بسيف العلم، ويفتح أبواب الفهم أمام طلابه بابتسامة وصدق وإخلاص.
في زمن يحتاج فيه التعليم إلى قدوات حقيقية، يظل محمد مصطفى واحدًا من النماذج الملهمة التي جمعت بين الكفاءة المهنية، والرؤية التربوية، والروح الإنسانية. إنه المعلم الذي لم يتعامل مع الرياضيات كأرقام جامدة، بل كحياة، ولم يتعامل مع طلابه كعقول تحفظ، بل كأرواح تستحق أن تُبنى.
هكذا يبقى “المصطفى” أو “الجزار” علامة مضيئة في سماء الإسكندرية التربوية، وصوتًا يثبت أن المعلم الحقيقي هو من يصنع الفرق في حياة تلاميذه، جيلًا بعد جيل.