مقالات

الحصة بعشرة جنية، مدرسة الغلابة “إبتهال علام “تطلق مبادرة إنسانية تحت شعار إن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

في زمن أصبح فيه التعليم عبئًا ثقيلًا على كاهل الأسر، وارتفعت فيه أسعار الدروس الخصوصية إلى أرقام فلكية، يخرج من بين قلوب الناس ومجتمعهم بصيص أمل يضيء طريق البسطاء والمحتاجين. من مدينة الإسكندرية، حيث تختلط نسائم البحر بروح العطاء، تبرز مبادرة إنسانية فريدة من نوعها قادتها أستاذة اللغة الإنجليزية ابتهال علام، التي أطلق عليها الناس عن جدارة لقب “مدرسة الغلابة”.

الفكرة التي بدأت ببساطة تحولت سريعًا إلى حديث الأهالي والطلاب في المنطقة، بل وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح قدوة يحتذى بها. أستاذة ابتهال قررت أن تجعل حصص اللغة الإنجليزية لطلابها – خصوصًا من فقدوا الأب أو الأم أو ضاقت بهم سبل العيش – بسعر رمزي لا يتجاوز عشرة جنيهات فقط. الهدف لم يكن أبدًا المادة أو جمع الأموال، بل كان ببساطة مد يد العون لأبناء مصر البسطاء، الذين قد تحرمهم ظروفهم الصعبة من استكمال طريقهم نحو التعليم الجامعي وتحقيق أحلامهم.

حين تسأل أستاذة ابتهال عن سر هذه المبادرة، تجيب بابتسامة صافية: “أنا لا أعطي درسًا.. أنا أفتح باب أمل، وربنا يعينني على أن أكون سببًا في فرحة طالب ينجح أو يحقق حلم والده الراحل.” هذه الكلمات لم تكن مجرد شعار، بل تحولت إلى واقع ملموس. فالحصة التي لا يتجاوز ثمنها ثمن كوب شاي في بعض المقاهي، صارت نافذة حياة لعشرات الطلاب الذين وجدوا فيها ملجأ من قسوة الظروف.

الأهالي في الإسكندرية يتحدثون عن مواقف مؤثرة عاشوها مع هذه المبادرة. أم فقدت زوجها قالت: “كنت خايفة ابني يسيب الدروس عشان مش قادرين على الأسعار، لكن ربنا بعتلنا الأستاذة ابتهال اللي بتعتبر الطلبة أولادها، وبتشرح لهم كأنها بتذاكر لعيالها بالضبط.”

كما اختارت أن تجعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم شعارًا لمبادرتها: “أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”. فهي تؤمن أن مساعدة الناس ليست فضلًا، بل واجبًا، وأن العلم زكاة يجب أن تخرج كما يخرج المال. لذلك، لم تفرق بين طالب غني أو فقير، لكنها خصصت فئتها المستهدفة من الأيتام وأبناء الظروف القاسية، لتمنحهم ما قد يعوض بعض ما فقدوه.

 

ما يميز هذه المبادرة ليس فقط السعر الرمزي، بل الروح التي تصاحبها. فالطلاب يصفون حصص الأستاذة ابتهال بأنها ليست مجرد تعليم لغة، بل جلسات دعم نفسي وتشجيع على الاستمرار. فهي تعطيهم الثقة في أنفسهم، تزرع فيهم حب الإنجليزي، وتعلمهم كيف يفتحون أبواب المستقبل بالعلم والإرادة.

أحد الطلاب كتب على صفحته الشخصية: “الأستاذة ابتهال مش بس بتدرس لنا إنجليزي، هي بتدينا أمل نكمل. بفضلها حاسس إن ربنا لسه بيبعت لنا ناس رحيمة في الدنيا.”

مبادرة “مدرسة الغلابة” لا تقف عند حدود الطلاب الذين يستفيدون منها الآن، بل تمتد آثارها إلى المجتمع كله. فهي تزرع قيمة التكافل والتعاون في نفوس الجيل الجديد. الطلاب أنفسهم صاروا أكثر وعيًا بمسؤوليتهم تجاه زملائهم، وصار بعضهم يساعد في تنظيم المجموعات أو شراء مستلزمات بسيطة لزملائهم الأقل حظًا.

كذلك، المبادرة أطلقت موجة من التفكير الإيجابي بين عدد من المعلمين الآخرين الذين رأوا في تجربة أستاذة ابتهال مثالًا يحتذى. بعضهم بدأ بالفعل في تقليل أسعار مجموعاته، أو تخصيص مقاعد مجانية لطلاب الأيتام، اقتداءً بها.

في النهاية، تبقى مبادرة “مدرسة الغلابة” نموذجًا حيًا يؤكد أن الخير ما زال في قلوب الناس، وأن رسالة التعليم أعظم من أن تُختزل في أرقام وحسابات. فأستاذة ابتهال علام لم تكن فقط مدرسة لغة إنجليزية، بل كانت مدرسة في الرحمة والإنسانية.

وفي كلماتها البسيطة تختصر فلسفتها كلها: “العلم صدقة جارية، وأنا عايزة أسيب أثر في الدنيا أكبر من مجرد الشرح.. عايزة أسيب جيل فاكر إن فيه أستاذة وقفت جنبه وقت ما كان محتاج.”

هكذا، وبين جدران فصل بسيط في الإسكندرية، تُكتب حكاية من أنبل الحكايات، تؤكد أن العطاء لا يُقاس بما نملك، بل بما نمنح، وأن الله حقًا في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى